الحداثة (التحول الاسلوبي وهموم المادة )
أن من اهم الثوابت التي يأمن بها الفنان نشات الالوسي ,هي البقاء ضمن دائرة الفن الذي يستوعب كل جزيئات المضمون المحلي و في كل مرجعياته الفكرية (الادبية) والتاريخية , الموروثة, والشكلية التي تتعلق بمفردات الحياة اليومية, وعليه فان اسقاطات هذا المضمون قد تولد لديه في لحظة ما اشكالا ورموزا ما تلبث ان تولد منجزا فنيا يوظف تلك المرجعيات في لوحة فنية معاصرة .
ومع ان , في فنون الحداثة يكون الشكل قد تمتع باستقلاليته ,عبر معارضته للمضمون الواقعي وانعطافه بعد تحرره من التبعية التي تذكر بهيمنة المرئي والمحاكاتي , الا اننا ومن خلال قراءة تحليلية لبعض اعمال الفنان نشات في الاسلوب المحدث , نجدان الاشكال ( المفردات التراثية ) المرسومة تفهم بديهيا (كعلامات مقروءة) لها بعدها الشعبي من خلال ارتباطها بمفاهيم ادبية وارتباطها بالمرجع المكاني والزماني ,غير ان تلك المفردات قد عولجت ضمن تكوين فني ( اسلوب تقني ) انتقلت به المفردة التراثية الى مناخ جديد لا تتمتع به بصفاتها المالوفة بل تحكمها العلاقة التكوينية مع متجاوراتها في الانشاء التصويري , ومهم بلغ هذا الاتجاه من تطرف نحو اللاصورية ( اللاتشخيصية )الا انه محكوم بايجاد صياغات بصرية تفسيرية تحيله الى نمط من العلامات والرموز , بفعل المضمون الذي يكون كفعل ضاغط بصورة او باخرى .
على الرغم من الفنان نشات يستمد تشكلاته وبحوثه الفنية من القيم الجوهرية للتراث الشعبي , هذا لايعني بالضرورة (المحاكاة) او استرجاع القيم الموروثة , بقدر ما يكون في الاتجاه الذي يجعل منه مسؤولا عن فنه انطلاقا من البنية الحقيقية الاصيلة والولوج فيها من جهة الحساسية الشعبية , ان ما يبحث عنه هو خلق قاعدة مرجعية لفنه ,هكذا يكون تحول الاشكال الواقعية المستوعبة من الداخل قادرة على منح الولادة لاشكال اكثر اختزالا او طاقة في اسلوب اخر يمتلك ذاته وروحه.
في احد احدى تجاربه الفنية والاسلوبية التي اعتمدها في معارضه (صالة المنزول وقاعة قباب) كانت الاشكال العمارية , الشنشول والشبابيك والابواب ,اساسا للوحة تشكيلية حداثوية , تعتمد على تقنية معينة تمتزج فيها معالاجات للمادة المستخدمة والتي كانت في بعض منها من الواح خشبية تتراكب فيما بينها في مستويات متعددة ,تنمو تلقائيا على السطح التصويري , بعيدا عن منظورها الواقعي او تشكلها المنطقي,
الاشكال تاخذ حالة من التوالد المستمر والتحول القصدي دون ان تستقل عن مضمون العمل او عن تمظهرها الاولي, فهناك حدس خفي مبثوث مع هذه الاشكال والتكوينات الجديدة , المتحققة بفعل توظيف التراكيب (المفردات التراثية )واضفاء مادة وصبغة تعبيرية عليها, الاعمال كانت خالية من العنصر البشري ,احياء من مدن العراق ,بتفاصيلها المعمارية المعروفة غير ان الفنان حاول تبسيط الصورة الاصلية مقابل ما تحتفظ به الذاكرة من معالم ترميز الى معاني تلك الاشال المرئية ,والتبسيط هنا لا يقتصر على اجزاء معينة من الشكل ولكنه التبسيط الذي يعني الترجمة بذكاء , والاهتمام بجعل اللوحة ذات ايقاع واحد يملك زمامها وفي سبيل ذلك يضحي ببعض الاجزاء او يقلل من اهميتها.
التقنية والمادة ( الخامة ) ومعالجتها الفنية ,دائما شكلا اهم همومه الاسلوبية تراه يتنقل عبر المواد المختلفة وتباين تشكلها باستمرار دون كلل ,معرض المركز الثقافي الفرنسي _بغداد ومعرض 2002 مدينة نيس الفرنسية ,كانت من التجارب الفنية المعاصرة التي تاسست على تقنية المواد المتنوعة ,استخدام اسلاك الحديد كاساس خطي يحدد تفاصيل الاشكال المرتفعة بعض الشئ على ارضية من الخشب المعالج بمواد تعطي الاحساس بالخشونة المفترضة ,ورغم بساطة التكوين الا اننا نجد مقابل تلك البساطة ومن خلال عقود من التجريب, يختزل الفنان نشات المسافة بين اسقاط اللاوعي واستحضار الوعي الكامل, بين البعد الاكاديمي والبعد الحداثي, فاتخذت لوحاته هنا فنها الخاص لتتميز بنوع من التاليف الذي يحقق هندسيته المحكمة ويكشف قوة الانزياح ,الاختزال في حدوده القصوى, باعتبارها محور العملية الابداعية.
امتازت تجربته بفرادة وخصوصية اسلوبية فرضت نفسها في الساحة الفنية العراقية كنموذج لأسلوب له سماته التي ترتبط بمحليته كأشكال ومضمون فكري من جهة ومن جهة اخرى تعامله مع المادة وتقنية معالجتها بحداثة تعكس فكرا ابتكاريا,من مختبره الابداعي , قد تكون من اولى التجارب في هذا الاتجاه.
في استقراء لمحتوى هذه التجربة , نجد ان الجو العام لمعظم اللوحات يستند الى الخيال في ضربات الحدس ,تميزه العلاقات الاستثنائية بين الخامات المتباينة وترابطها البصري التي تتحمل الاسترسال والتاويل في سرد مضمود ادبي في بعض الاحيان ,حكايات شعبية من الواقع المحلي , تلميحات قد تكون قابلة للمقروئية , مفردات تتكرر وتتحول بفعل موقعها في الانشاء التصويري ,الشباك , الهلال , الحمامة , القلب, وجوه بشرية رسمت كانصاف دوائر بعيون كبيرة لوزية وانف مستدق ينتهي عند الفم الذي صور باختزال واضح, ودائما هذه الوجوه هي محور النص المرسوم, هذه المفردات صورت بتشكيل مبسط ومختزل اعتمد الخط المتصل كمحدد اساسي وخارجي للاشكال , وعلى الرغم من محاولة الفنان نشات اقصاء نص الحكاية المباشر عبر التراكيب والتداخل ما بين هذه المفردات في مستوي هندسي واحد الا ان الوحدات الانشائية بقيت محتفظة ببعدها الدلالي في تعينها للموضوع وتوظيفها للموروث.
المعالجات التقنية لمجمل اعمال هذه التجربة , يمكننا دراستها عبر مستويين الاول يشكل خلفية الاشكال ( ارضية اللوحة ) والتي اثر فيها الفنان الاشتغال على جانبين هما (الاشتقاقات) اللونية المتجانسة والمتداخلة والتي تعطي انطباعا بالفضاء الممتد دون بداية او نهاية , والجانب الاخر (الملمس ) الخشن لهذا السطح الذي يعطي احساسا جماليا عبر الايقاعات المتواترة التي تخلقها التضاريس المتفاوتة بالكثافة, الاشتقاقات والملمس ساهما في تصعيد حدة التنافر والتضاد بينهما وبين الكتلة الرئيسية للاشكال والتي احتلت المستوى الثاني للسطح التصويري وقد كشف الفنان عن هذا التنافر بدفع هذه الكتلة وتثبيتها خارج السطح مسافة بسيطة ساعده في ذلك التقنية التي اخرجت بها هذه الكتلة ,استخدام اسلاك الحديد بعد ثنيه وتثبيته (ربطه)بالة اللحام ومن ثم تلوينها بالوان لا تمثل الاشتقاق المنطقي لبنيتها الحقيقية بقدر اشتقاقها الخيالي ,كجزء مكمل للمعالجة الاساسية.
هنا كان عنصر الضوء المسلط على العمل سببا في تصعيد الجمالية المتوخاة , بنفوذه عبر الكتلة المفرغة ومن ثم حصول ظاهرة تكرار الشكل بخطوطه على السطح المتحرك على وفق اتجاه المصدر الضوئي.
التجربة , في كثير من الاعمال, تكشف عن مؤازرة بين عناصر متنوعة ومتضادة ومبتكرة واللوحات بطاقتها التجريبية والابتكارية ثبتت دخولها حيز ( الحداثة) بتجاوزها الوسائل التنظيمية المالوفة , اذ اطلق الفنان نشات لخياله العنان في تمثيله البصري للاشكال على وفق مقتضيات بحثه الشخصي دون ان يفرط بجمالية تلك الاشكال او حضورها التعبيري.
الحدس الاساسي المتمثل في فن نشات الالوسي ,هو المحاكاة الشبه سجالية بين خياله ونزوعه الى التحرروبين حنينه الى الجذور والاهتداء للذات من لجة الذاكرة المرتبطة والموسومة بحب جارف لكل ما يتعلق بالمحلي ورموزه المتعلقة بالموروث وتشكلاته .