الفنان نشات الالوسي                                                      

لعل اول ما يسترعي انتباه المتطلع لاعمال الفنان نشات الالوسي في فترة السبعينات من القرن العشرين,  هو ميلها الواضح الى توثيق الواقع المحلي (العراقي) باسلوب واقعي مستعرضا امكانيته الاكاديمية التي تنم عن حرفية عالية في دراسة حركة الاشخاص في المشهد التصويري,واستخدامات العناصر الفنية من دراسة الظل والضوء الى العلاقات اللونية وما الى غيرها من اساسيات التكوين العام للوحة الواقعية.

لقد كانت دراسته في معهد البوزار في باريس في تلك الفترة واندماجه في مجتمعها الفني بين استوديوهات الفن والعمل في مشاغل تصليح اللوحات القديمة , الاثر الاكبر في ميله لاستقصاء الواقع المعاش وتنفيذ معظم لوحاته في تلك الفترة باسلوب واقعي يقترب من الكلاسيك, مغامرا في اقحام مواضيع ذات صبغة شعبية الا انها تاخذ حيزا كبيرا من خصائص الفن الكلاسيكي .عبر تقنية المبالغة في  استخدام عنصري  الظل والضوء والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة عوضا عن الانشاء العام والذي يفصح عن انتمائه ولو بجانب بسيط للعمل الكلاسيكي

صالة نادي العلوية للفنون  احتضنت اولى معارض  الفنان نشات الالوسي بعد عودته من باريس عام 1978 تضمن المعرض استعراضا واضحا لدراسته الاكاديمية فقد كان للمودبل الشخصي الحصة الاكبر عوضا عن  تقديم بعض اعماله التي نفذت اثناء دراسته في باريس, الاعمال كانت متنوعة المواضيع ما بين الحياة الجامدة ورسم الاشخاص الى لوحات تضمنت الاحياء العراقية القديمة, على الرغم من الاعمال نفذت بالاسلوب الواقعي الا انها احتملت تكنيكا مميزا يعتمد الالوان الصريحة وبكثافة لونية تكاد تكون سمة بارزة شكلت التقنية الرئيسية لمعظم اللوحات,  و يشارالى ان هذه التقنية قد رافقت الفنان في مسيرته الفنية في معظم اعماله في المنحى الواقعي والتعبيري.

في مطلع الثمانينات وبعد استقراره في العراق , نزع الفنان نشات الى دراسة وتصوير الطبيعة المحلية وفي رؤية الباحث والمتقصي , اخذ على عاتقه توثيق جوانب كثيرة من المواضيع الشعبية وتصوير مناطق نائية من ارض العراق من خلال تنقله وسفره عبر اجواء تكاد تكون خطرة في بعض الاحيان , لكون البلد كان في فترة حرب , ولا يفوتنا ان نذكر من ان  الفنان نشات كان له نصيبه من الخدمة العسكرية انذاك ,(التوجيه المعنوي ), الوحدة العسكرية التي احتوته مع مجموعة كبيرة من الفنانين العراقين (ناظم حامد , شوكت الالوسي, عاصم عبد الامير , حسام عبد المحسن, وغيرهم ), لوحات عديدة تضمنت مواضيع الحرب والجيش والثكنات العسكرية , انجزها الفنان نشات في تلك الفترة وبالاسلوب الواقعي ايضا الا في احيان قليلة كان الاسلوب التعبيري ياخذ حيزا بسيطا من تلك الاعمال.

 على الرغم من ميله الواضح للفن الاكاديمي الا انه يلجأ الى التجريب في احيان كثيرة, معتمدا على امكانيته الحرفية في تقصي جوانب فنية و معرفية مهمة , الفن اتعبيري كان الاساس في معضم تجاربه الا في محاولات بسيطة تضمنت مخطوطات ورقية منفذة بالحبر باتجاه يقترب من السريالية , اثناء تواجده ضمن الكادر الفني  لدار الصحافة والنشر,  عن بعض الدراسات الفنية لاساليب نفذة لاحقا بتقنيات مختلفة,

 بعد عدة مشاركات فنية جماعية في صالات العرض الفنية, كان المعرض الشخصي التالي في قاعة الرواق في بغداد-  1977     - يعتمد اسلوبا حديثا غلى الرغم من تناوله مفردات ذات طابع شرقي عراقي ,يقترب الى حد ما من اسلوب مدرسة بغداد غير ان الفنان اتجه بعيدا في تجريد الاشكال المعمارية وتفاصيل الشخوص , الا انه كان ملتزما   بالمضمون الاساس للموضوع المصور.

الاشكال الادمية احتفظت بالرموز الجمالية العراقية والتي تستند على خصائص واضحة تضمنه الفن العراقي القديم ومن ثم الفن الاسلامي وامتدادا لرسومات التراث الشعبي, الوجه المدور وابراز العيون اللوزية الواسعة واهمال بشكل ملحوظ للانف وصغر الفم ,عوضا عن ابراز الجسم الممتلئ كل تلك الموصفات بالاضافة التركيز على الالوان المتضادة  والصريحة, على ارضية تتمثل بمفردات معمارية عراقية , الشنشول والشبابيك الخشبية , وغيرها , اظهرت في النتيجة لوحات لها طابعها العراقي الخاص على الرغم من التقنية الحداثوية في التعامل مع العلاقات اللونية واستخدامات تنوعات الخطوط والتعامل مع الموضوع المصورعلى اساس مضمونه الجمالي والفني,  بتفرد واضح.

الريف والطبيعة والمضمون الشعبي كان  لهم الحيز الاكبر في اعماله على الرغم من تباينها مع ما كان سائدا من الاساليب الفنية في العراق في ثمانينات القرن العشرين والتي اهتمت في الاشتغال والتاسيس لفنون الحداثة  انذاك ,الا في بعض التجارب الفنية الاكاديمة لبعض الفنانين الملتزمين امثال الفنان فائق حسن والفنان خالد القصاب والفنان وليد شيت والفنان صلاح جياد والفنان فيصل لعيبي وغيرهم.

معرض (الوس) في صالة الاورفلي للفنون ,كان من التجارب الناجحة في توثيق معالم وطبيعة القرية التي ولد فيها الفنان,الاسلوب العام كان واقعيا وفي جزء منه التجئ الى الانطباعية كحل اكيد لاظهار جمال الطبيعة هناك وفي نفس الوقت لاضفاء التنوع اللوني واستعراض المهارة الحرفية والذي تتطلبها معارض من هكذا نوع, اعتمد الفنان نشات في انجاز معظم لوحات في هذا المعرض على الرسم المباشر في الطبيعة ,حاملا مسند الرسم ومتنقلا مع اخيه الفنان ضرغام في بساتين قرية الوس باحثا عن ما يروي شغفه من زوايا ومناظر والوان ,تقتنصها فرشاته لتملئ بها سطوح لوحاته البيضاء .

لم يكن الخطاب الفكري ولا المضمون النقدي من هموم الفنان في هذا المعرض غير ما اراد به ,جانبا توثيقيا يارشف به تفاصيل تلك القرية التي كان من المتوقع ان تغمرها مياه الفرات ,عوضا عن ممارسة الاسلوب المحبب الى نفسه (الرسم الواقعي) وابراز مكامن الجمال الكامن من خلاله.

الطبيع والطبيعة دائما هي الجذر الذي الاساس الذي يتكأ عليه في استراحاته الفنية و ما بين تنقلاته الاسلوبية, تجده يبحث وبشغف عما يروي ضمأه المستمر ,معرض المئة لوحة عام  -   1999 -,كان المشروع التالي ,مئة لوحة صغيرة تجسد طبيعة العراق من زوايا نظر ورؤى متعددة, فكرة ممكن تحقيقها, اذن ساعة الصفر تبدا من خلال اول لمحة مصورة تتهيأ له, لم يكن تحضير قماشات الرسم ولا الاطارات الخشبية  تشكل عائقا نوعا ما امام الفنان نشات الالوسي على الرغم من صعوبة وجود ادوات الرسم في العراق انذاك ,الا انه ومن بداياته كان اعتماه على ما تنجزه يداه في تحويل وتحوير المواد الخشبية لتكون في النهاية جزءا من عمل فني متكامل.

 لم يكتف  من حمل مسند الرسم والتنقل به بين احياء ومناطق الريف المحيطة ببغداد , فقد اعتمد التصوير الفوتوغرافي رافقه انذاك المصور الفوتوغرافي زياد تركي  , حاملين معداتهم ومنتقلين من مدينة لاخرى باحثين عن  لقطات تصويرية تقتنصها  كامرتهما لتكون اساسا للوحات فنية فيما بعد.

قاعة افق ,كان الاختيار لمعرض المئة لوحة , من طبيعة العراق ,لم تتجاوز قياسات الاعمال على 50 سنتيمتر , الا انها احتملت اسلوبا متعدد ومتنوع في التقنيات الفنية ,ومتنقلا ما بين تقنية الفن الكلاسيكي, بتناغم الالوان وابراز تفاصيل الدقيقة احيانا واستخدام الفرشاة المثقلة بالالوان المتضادة وبكثافة  تنم عن حرفية الفنان الاكاديمي احيانا اخرى. ولع الفنان نشات في طبيعة العراق ,وحبه لكل مكوناته المادية كان له اثره الواضح ,ففي كل لوحة يجد المتلقي ومن اول وهلة ان هنالك بحث دراسي وجهد مبذول في التعامل مع الواقع المصور في كل تفاصيله ,انه يتعايش معه اولا ومن ثم تتناوله يده الفنية في نقل ليس فقط ماتراه عينه بل وما تختزنه ذاكرته من استنتاجات تكمن وضرورات تتطلبها انجاز مثل هكذا اعمال,

التجريب ومحولات الانفلات من الاسلوب الواقعي كان احد ابرز الهموم الفنية التي رافقت الفنان ضمن جهده اليومي خلال فترة التسعينات وبعد معرضين  في عمان على قاعة عالية ومركز شومان في نفس الاسلوب الواقعي , جاء معرض قاعة اثر في بغداد عام -    - , ليكون محطة مهمة في تنقلاته الفنية .,المعرض احتوى على اعمال  نحتية بالاضافة الى الرسم الذي كان باسلوب تعبيري يقترب من معرض قاعة الرواق الا انه امتلك جراءة مضافة في طرح تجربة جديدة نوع ما في اشكال وومواد اللوحة المرسومة فاشكال اللوحات كان بعضها مثاث الاضلاع وبزوايا مختلفة, عوضا عن تنظيم وترتيب اللوحات على جدران الصالة ,والتي احتوت بالاضافة الى اللوحات المرسومة , اعمالا نحتية نفذت من مادة الصوف الملفوف على هياكل حدبدبة ,الاعمال تضمنت مساحات متجاورة لا لوان متضادة شكلت الخطوط الاساسية  و المحيطية للاشكال الادمية, قياسات الاعمال كبيرة نوع ما  تجاوزارتفاع بعضها على المترين ,الاسلوب الفني للاعمال النحتية كان تعبيريا الا ان الاشكال جردت في كثير من تفاصيلها التشريحية ,في النتيجة, التجربة كانت بمثابة انتقالة واضحة وتكاد تكون تجربة حديثة لها خصائصها المتفردة في الساحة الفنية العراقية.

استوديو الفنان الخاص كان له  حصة في احد معارضه في عام     وتجربة اخرى استندت الى الاشكال المعمارية العراقية والبيوت التراثية كاساس للوحة فنية خالية من الاشكال الادمية, تاخذ من الحس الهندسي معظم تكويناتها,كالشنشول الابواب والشبابيك القديمة, الاعمال نفذت بمواد رسم متنوعة ,الالوان الزيتية و الاكرليك مضافا الى الالوان المائية .المعرض كان بسيطا الى حد ما الا انه كان اساس لاسلوب فني مهم  في ما بعد.

قاعة المنزول في ابو ظبي هي الاخرى احتضنت اعمال الفنان نشات في اسلوبه الاخير ,الاشكال الهندسية والمعمارية العراقية ورغم تجريدها لكثير من ملامحها التفصياية الا انها احتفضت بمضمونها التراثي وهويتها العراقية من خلال التاكيد على الرموز الاساسية والخصائص التي تربطها بواقعها المحلي.

عام      ,العودة مرة اخرى الى العشق الاولي , الواقية , ومعرض قاعة الاندى , في عمان  ,لكن هذه المرة كان للحياة الجامدة (ستل لايف), اكثر من ثلاثين عملا ,لتكويناة متنوعة نفذت بالاسلوب الواقعي والكلاسيكي, استعرض فيها الفنان جهده المتميز والاكاديمي لدراسة ورسم مواد مختلفة , وبتقنيات متنوعة, قد تكون تجربة ناجحة جدا بالاتجاه الاكاديمي الا ان الفنان وبكل تاكيد لم يلجأ الى المفاهيمية او الاستناد الفكري بقدر محاولته استعراض للأمكانية الحرفية وايجاد منافذ شكلية جمالية تكتشفها بصيرته ورؤيته الفنية للمواد المتنوعة عبر الدراسة الجادة للعلاقات اللونية المتحققة وتوزيع الاشكال في الانشاء التصويري.

اعتاد الفنان نشات بين فترة واخرى  العمل على اعتماد اعمال فنية تكاد تكون بمثابة ( الاستراحة من ارسم للرسم ) هكذا يسميها  ,الرسم والرسم فقط دون تقيد او شروط, انجاز اي شئ فني , بالنتيجة تتكون مثل هكذا معارض لا يطمح منها الفنان غير ارضاء لذاته المحترفة وبنفس الوقت قضاء معظم الوقت ضمن اجواء الفن وداخل محترفه الخاص وممارسة طقوسه الفنية وبالتاكيد الاهتداء لتجارب اسلوبية اخرى .

قاعة قباب للفنون  في ابو ظبي , كانت المحطة التالية وتاسيس استوديو خاص للفنان في الامارات العربية , ومن ثم التحضير لمعرض جديد , باعتقادي كان من المعارض التي حضر لها الفنان نشات , من فترة طويلة تكاد تكون من بداية اهتمامه بالفن الحديث ,غير انه من حين لاخر ينجز لوحة اواثنين بهذا الاتجاه ويغادرها على امل دراستها اكثر ومن ثم انجازها كفعل يضمن تحقيق مايرضي غروره الفني ,في النتيجة كان معرض من الطراز الاول بكل مقاييس الابداع الجمالي , لوحات باحجام كبيرة نفذت معظمها على اسطح خشبية وبعدة مستويات متعاقبة, بعضها كان بأبعاد ثلاثبة , المدينة بكل حدودها الشكلية واحاسيسها المنبعثة من كل زواياها العمارية ومساقط الضوء في حناياها وتضاريسها المتاكلة بفعل الزمن وابداع بناءها  الروحي الذي كان محط اهتمام الفنان واساس اسلوبه الذي اعتمد التحوير الشكلي لمفردات متشكلة بفعل البناء ( الحرفي)  الفطري في كثير من الاحيان , والتي تتأسس على انماط لها خصوصيتها التقليدية وتحكمها شروط تراثية ومجتمعية محددة, تلك المفردات رغم تمظهرها الواقعي الا انها احتملت كثيرمن التاويل والتحوير لتنتهي ضمن اسلوب حداثوي اعتمد على توزيع تلك المفردات في انشاء يعيد صياغتها على وفق رؤية جديدة لا تحدد زمان ومكان ثابت لها ولا ترتبط بمنظورها الحقيقي وبالتأكيد لا تتقيد بالوان ثابتة, الضوء والظل ,عبر عنهما الفنان من خلال تباين  العلاقات اللونية والركيز على التضاد اللوني في حدوده القصوى لخلق ذلك الشعور الذي تحتويه ازقة وبيوتات المدن العراقية القديمة وتبابن الضوء والظل الحاصل بفعل نور شمسها الساطع, التجربة عموما مثلت احدى واهم الاساليب التي يركز عليها الفنان في مشواره الفني.

لم يكن النحت ومطاوعة المادة الصلبة بالشئ الجديد على الفنان نشات ,غير انه وبعد انتقاله للعيش في عمان ,الاردن , اهتم وبشكل متزايد في الرضوخ لمغريات المواد الصلبة ,الخشب, البرونز , والياف الفايبر, لتاخذ منه كل وقته تقريبا , في البحث والتقصي واستكشاف الجديد الذي يروي ظمئه , وبقدر ما كانت للمادة النحتيه مشقاتها كان للاسلوب الفني الذي ينوي الفنان تنفيذ (اسكيتشاته) ودراساته الاولية من خلاله , اشكالاته التي لا تقل صعوبة او هما مضافا تتمحور حوله اليات العمل الفني , انهمك الفنان نشات في اولى التجارب النحتية و الاشتغال على مادة الخشب و كبداية كان الجداريات النحتية تحكي قصصا تروي موضوعات شعبية ,شكلت شخوصها باسلوب تعبيري تهتم بابراز المضمون الادبي ,عبر محاكاتها للقصة المروية ,وما لبثت ان تتكور تلك الجداريات  لتختزل الى شكل رئيسي واحد او في بعض الاحيان اثنين, وعلى الرغم من ان ألفة المواد المستخدمة الا اننا امام تعدد اسلوبي واضح لم يكن عائقا امامه تنوع تلك الاساليب بقدر ما كان الهم الاساسي هو خلق خصوصية مرتبطة بروحية الفنان ورؤيته للجسد الانساني, الذي شكل معظم المنحوتات, واعتماده لغة واحدة وايقاع واحد يحتفظ بشروط حددها الفنان لادواته منذ البداية.

نشات الالوسي ,ذلك الفنان الذي ينتقل من اسلوب الى اخر دون كلل اومضض وكأن كل شئ في حياته عبارة عن ترحال ابدي في متاهاة الفن    دون اي استقرار عدا تلك الفترة التي يقضيها خلف مسند الرسم او طاولت النحت ,ادواته مهيأة دوما قد لاتحتاج الى تحضير او اعداد مسبق , مجرد ما تتكون فكرة ما في مخيلته ,ما تلبث ان تنتقل ودون اي انذار مسبق الى القماشة او المادة النحتية وكأنها امر محسوم لابد من تناوله, قد يكون كل ما تناولناه في الاسطر المكتوبة لا يتعدى حاضرا بسيطا لحياة مليئة بالشغف الفني وطاقة مخزونة قد لا تنضب لسنوات طوال ,غير اننا قد اشرنا باصبع الاستدلال حول ماهية تنقلاته الاسلوبية واعتقد ان ما يحتويه الكتاب من صور لجزء من اعماله الفنية ستكون خيرعون في الوقوف والامعان في مجمل تحولاته وتنقلاته الاسلوبية.